الاثنين، 20 فبراير 2012

شجرة التوت ... (لمحات من الذاكرة)


كانت الدموع تنساب من عينى " أم عطية" وهى جالسة على كرسى فوق الرصيف تتأمل فى حسرة هؤلاء الرجال الذين يقطعون الشجرة الضخمة على طرف ذلك الفضاء المجاور لمنزلها وكان هؤلاء الرجال يمزقون ذكرياتنا صفحة صفحة بقسوة شديدة ثم يكدسونها على عربة نقل لتلقيها فى مكان مجهول لا نعلم عنه شيئا إلا كونه بعيدا .... وما هى إلا أيام قليلة حتى بدأ يرتفع بناء جديد أفقد هذا المكان رونقه وروعته وقضى على ما تبقى منه فى نفوسنا...
لم نعد بعدها نلعب فى هذا المكان ولا أدرى إن كانت "أم عطية" تبكى على الشجرة أم على ذكرياتها معها أم تبكى وحدتها ورحيل العفاريت ... كل شىء أحبته قد فارقها .. ولم يتبقى لتلك المسكينة إلا رحمة الله.

شجرة توت عتيقة ضخمة كثيفة الأوراق كثيرة الفروع عالية جدا ثمارها من التوت الأحمر والأسود وكانت ظلالها وارفة إذا وقفت تحتها يداعبك نسيم عليل حتى فى أشد الأيام حرارة.

كنا صغارا نهوى اللعب عندها ونهوى تسلقها بحماسة شديدة ونتسابق فى أينا يستطيع الوصول لأعلى فرع فيها فى أقصر وقت وكنا نحب البقاء أعلاها وتناول ثمارها دون غسل الثمار... وكان تناول ثمار هذه الشجرة سببا وجيها لأن أستمع لأسطوانة أمى اليومية حول الحشرات والكائنات التى تزحف على هذه الثمار وما قد تسببه لى من أمراض وكانت النتيجة الحتمية للتخلص من هذه الأسطوانة وذلك العزف المنفرد هو شرب كوب اللبن الكبير دون امتعاض أو اعتراض .. كان كوب اللبن بالنسبة لى عقابا كبيرا أتقبله على مضض لكن بتسليم تام لتهدأ عاصفة أمى.

وفى اليوم التالى وقبل خروجى للعب تضع أمى أسطوانة أخرى تحذيرية من أكل ثمار التوت دون غسيل وتتوعدنى بالعقاب إذا فعلت .. أمى إذا تكلمت تحب أن تكمل حديثها حتى النهاية فأطبع قبلة على خدها فى تملق واستعطاف وأنسحب قبل انتهاء الأسطوانة مبتسما فقد كانت عصبيتها من النوع الظريف المفعم بطيبة القلب.

كانت شجرة عظيمة تبعد عن شارعنا بعدة شوارع وكانت ملعبنا فى الربيع وقد تنوع لعبنا حسب فصول السنة .. للشتاء ألعابه وللصيف ألعابه وللخريف والربيع ألعابهما.

 كانت الشجرة ملعبنا الربيعى وكانت "أم عطية" لعبتنا طول السنة.

و"أم عطية" هذه عجوز طاعنة فى السن صغيرة الجسم فى ظهرها انحناء الشيخوخة وكانت بدوية غريبة الثياب واللهجة فتجد كل ألوان الربيع فى ثوبها وكانت شريرة وطيبة فى نفس الوقت فإذا أظهرت لك شرها فأنت هالك وإذا انهالت عليك بحنانها فأنت محظوظ.

كانت تسكن فى فيلا صغيرة قديمة جدا متهالكة أشبه ببيت الأشباح وكان الأثاث الظاهر من نوافذ الفيلا المحطمة عبارة عن كراكيب مكسرة كأنما جمعت من بقايا بيوت شتى وكانت تعيش فى فيلاتها المجاورة لشجرة التوت بمفردها فلا نعرف لها أهلا إلا هؤلاء الغرباء البدو الذين كانوا يزورونها قليلا ربما مرة أو مرتين فى السنة.

وكانت "أم عطية" هى الراعى الرسمى لشجرة التوت رغم أنها لا تملكها فالشجرة تقع فى الطريق العام فهى ملك للجميع .. فإذا رأتنا نلعب إلى جوار الشجرة تخرج خرطوم المياه وتغرق الشارع وتنهال علينا بالسباب وتطردنا من هذا المكان .. كنا عابثين غير عابئين بها وكانت تسليتنا أحيانا وربما كنا نحن أيضا تسليتها ..

كنا نقابل شرها شرا ونقابل خيرها شرا أيضا فكانت عصابتنا لا تعرف الرحمة.

تتكسب "أم عطية" منا .. يعطيها الواحد منا قرشا فتسمح له بتسلق الشجرة وتناول التوت لعشرة دقائق ولم تكن تملك ساعة ولكن كانت الدقائق العشر تمر سريعا علينا وبطيئة عليها ..

تنادى "أم عطية" : انزل يا حسام ..  لا ينزل حسام
تلتقف حجرا وترميه به يخطئه فترميه بحجر آخر وهكذا حتى ينزل حسام ..

تنادى "أم عطية" : انزل يا أشرف ..  لا ينزل أشرف
تفعل معه مثلما فعلت مع حسام حتى ينزل أشرف

انزل يا خالد .. لا ينزل خالد فتفعل معه ما فعلته مع زميلاه .. لكن خالد هذا كان شيطانا صغيرا لا يطيعها أبدا ..

منذ أن أصابنى حجرها مرة حافظت على أن أعطيها خمسة قروش ليكون وقتى مفتوحا وقد ظل أثر هذا الحجر فى نفسى بضعة أيام قد عدت بعدها أتسلق الشجرة بقرش واحد فقط وأجننها بقية الوقت.

أما "مازن" فكان يأخذ معه بعض الأحجار ليقذفها عليها عندما تبدأ مدفعيتها فى الانطلاق .. وكان لا يأكل التوت ولم تفلح محاولاته فى إقناعها بذلك فقد كانت قناعتها أن قروشنا ثمنا للتسلق وتناول التوت ولا يعنيها سواء أكلت أم لا.

"على" كان سمينا لا يستطيع التسلق وكان يصعد جزءا يسيرا من الشجرة وكان هو الرهينة دائما لديها تساومنا عليه وكنا لا نعبأ بتحريره.

وكان "على" رغم ذلك فتاها المدلل تعطيه أحيانا فى أوقات رضاها بعضا من الحلوى وكان هو أرفقنا بها.

بالنسبة لى تمثل "أم عطية" الساحرة الشريرة فكانت شديدة الشبه بها إضافة إلى بيت الأشباح الذى تعيش فيه وما أثير حوله من قصص مرعبة بين الناس عن احتراق ابنها عطية وزوجته قبل زمن طويل وكنا نرى آثار ذلك الحريق فى المظهر الخارجى لهذا البيت الذى يبدو أنه احترق منذ ألف عام.

كانت "أم عطية " غريبة الأطوار وقد رأيتها كثيرا تكلم نفسها كأنما تحدث أشخاصا آخرين وكانت تحفظ أسماءنا جميعا لكنها أحيانا تنادينا بأسماء غريبة..

أذكر مرة انها نادت "عليا" باسم "بريَِك" وكانت أول مرة أسمع مثل هذا الاسم فكنت أناديه به زمنا طويلا وكان يضيق بذلك جدا.

كان هناك وقت للهدنة بيننا وبينها فتنادينا فيه فنتجمع حولها فى داخل سور البيت فتحكى لنا بعض الحكايات ولا تخلو حكاية لها من قصص العفاريت والثعابين وكنا نسمع ونتخيل فترى عقولنا ما لا تراه أعيننا وكنت أسألها عن العفاريت بشغف شديد فكنت أهوى التفاصيل .. وكان لدى شغف أن أدخل بيتها لأرى العفاريت .. وكان كل عفاريت "أم عطية" طيبين لدرجة أننى أحببت وقتها العفاريت .. ربما كنا نحن أكثر شيطنة من عفاريتها وخصوصا "مازن"...
وكانت "أم عطية" بارعة فى وصف الثعابين وشيطنتها لدرجة أنى كنت أغلق عينى عند وصفها للثعبان فى قصصها كان بشعا حقا.. وكان إذا ما حرك الهواء شيئا بجوارنا تلفتنا فى كل الاتجاهات من حولنا خشية هجوم الثعابين علينا .. كانت معرفتنا بالثعابين محدودة فقط من خلال حكاياتها وبرنامج عالم الحيوان الذى كنا نشاهده فى التليفزيون يوم الجمعة.

ارتباطنا بأم عطية كان شديدا فكنا إذا مرضت بكيناها وإذا شفيت رميناها بالأحجار دون أن نصيبها لأننا لم نرد أن نؤذيها .. وضايقناها ببعض الأغنيات .." روح لأم عطية وقول لها عبد الواحد بيحبها ..." وكنت أتساءل فى نفسى .. من عبد الواحد هذا ؟! ..

كان الناس يحتالون فى تقديم الصدقات لها فلم أر أفقر منها حالا ولا أغنى منها نفسا ..

كنت أهوى تسلق الشجرة حتى نهايتها وكنت أهوى الاستلقاء على فروعها الكبيرة وكانت الشجرة تعج بالأطفال فى أعلاها وتمتلىء الأرض بالأطفال الواقفين تحتها ..

بينما أن مستلق على أحد الفروع الكبيرة نظرت للفرع المقابل لى وكان متواز مع الفرع الذى استلقيت عليه يرتفع عنه قليلا لكنه قريب جدا منه رأيت أول ثعبان فى حياتى وكان قد التف حول نفسه فوق الفرع فى هدوء شديد ربما كان وجوده هناك أسبق من وجودى .. لم أفكر كثيرا بل لم أفكر أساسا ألقيت بنفسى من فوق الشجرة .. لأصطدم بالأسفلت فاتحا فمى دون صوت لحظات تحولت فيما بعد لصراخ شديد فقد كسر ذراعى الذى ظل فى الجبس لأكثر من شهرين لم أستطع خلالها أن أتسلق الشجرة ولم أرد تسلقها فقد آمنت أن الثعبان يسكن هذه الشجرة ..

غبت عن الشجرة أياما فقد صدرت الأوامر بعدم اللعب بالشارع فكنت بين البيت و المدرسة رهينا .. جاءت "أم عطية" تزورونى .. وكانت قد سألت عفريتها المدلل   "عليا" عن بيتى فدلها عليه ... كانت تعرف أن فزعى الشديد من الثعبان نتيجة حكاياتها .. رأيت شعورا بالأسى يملأ عينيها وهى تنظر لى بحنان شديد كأنما ينفطر قلبها .. تذكرت ساعتها عندما حاولت مرة أن تعطينى بعض الحلوى لكننى رفضت فقد كانت نفسى تأبى تناول شىء من يدها..

لقد كانت ساحرة طيبة القلب .. وقد كانت أفكارنا متباينة ومشاعرنا متباينة وتصرفاتنا متباينة.

جاء الصيف وانتقلت معه ملاعبنا إلى الشاطىء غير أننا من وقت لآخر نذهب فنستمع لحكاياتها وكانت تسمح لنا بتسلق الشجرة فى ذلك الوقت مجانا لإغرائنا باللعب فى هذا المكان فقد كانت تفتقدنا فى الصيف.

كان مازن يشاركنى الشغف برؤية العفاريت وكنا نخطط كيف ندخل بيت الأشباح هذا ولكن الأمر صعب جدا فالأشباح تظهر فى وقت متأخر من الليل فى بيتها حسب الروايات السائرة بين الأطفال ونحن فى مثل هذا الوقت لا يسمح لنا بالخروج من البيت.

سنحت لنا الفرصة فى شهر رمضان حيث كنا نصلى العشاء والتراويح ثم نلعب الكرة فى الشارع بعدها نعود للبيت .. قررت أنا ومازن ألا نلعب الكرة فى ذلك المساء وأن نزور "أم عطية" التى لم ندخل بيتها من قبل إلا ذلك السور المتهدم المحيط بالبيت فقد كان بلا باب وكنا نجلس فى داخله لنستمع لقصصها .. أما داخل البيت فلم يدخله أى منا ولذلك كان الجميع يصفه من وحى خياله فهذا يتحدث عن سرداب فيه يوصل لعالم الجن وذاك يتحدث عن وجود قصر جميل بناه الإسكندر الأكبر مدخله خلف دولاب ملابس "أم عطية" .. كانت "أم عطية" وبيتها مرتعا للأساطير.

دخلنا نقدم قدما ونؤخر أخرى فلم نكن نخاف من العفاريت ولكن خوفنا كان من "أم عطية" ذاتها .. كان بيتا مظلما تماما فلا نرى فيه مصباحا واحدا مضاء لكننا عندما نظرنا من النافذة كنا نرى رغم الظلام .. ترددنا فى الدخول وعدنا إلى خارج السور ومضينا إلى بيوتنا..

بعد بضعة أيام قررنا تكرار المحاولة .. وكان معنا فى تلك المرة صديقنا خالد .. ببطء شديد دخل ثلاثتنا من باب البيت المفتوح  ثم بدا لنا ضوء خافت لمصباح صغير من إحدى الغرف وكان بابها مواربا نظرنا فى هدوء فى الغرفة فلم تكن أم عطية بها ودخلناها لعلنا نجد السرداب المؤدى لعالم الجن ..

أقبلت "أم عطية"  على باب الغرفة وفى يدها عصا خشبية تهدد بضربنا بها إذا لم نخبرها بسبب مجيئنا وماذا نريد أن نسرقه منها...
كنت خائفا جدا منها وأخشى أن تنال منى عصاتها .. لكنى تذكرت تلك النظرة الطيبة التى رأيتها فى عينيها عندما زارتنى فى بيتى وقلت لها نحن لم نأتى لنسرق شيئا فأنت لا تجدى طعاما وليس لديك شيئا يسرق..
مازن: لن تصدقنا فأنا أعرفها .. كنا خائفين منها حقا لكن خالد كان يرتعد من الخوف وقال : "أنا ماليش دعوة .. احنا جايين نشوف العفاريت بتاعتك" ..
ضحكت أم عطية بشدة ..
وقالت: تريدون معرفة مكان العفاريت؟
أطرقنا منتظرين أن تدلنا على مكانها ..
قالت: إنها على شجرة التوت
هل جربتم تسلقها ليلا؟
وأخذت تضحك من جديد ..
بدأت أشعر ومن معى بالعفاريت تملأ المكان
لم نر أيا منها
كنا نتحرك ببطء نريد الخروج ....

وما أن سنحت الفرصة حتى انطلقنا وفى لمح البصر كنا قد ابتعدنا عن بيتها ..

تخفق قلوبنا بشدة حتى أننا نسمع عزفها .. توقفنا وجلسنا على الرصيف لكن العزف مازال مستمرا .. ثم ضحكنا بشدة فرحة بالأمان .. كما غمرتنا سعادة كان مصدرها تلك اللذة بدخول بيت الأشباح ..

لا أدرى لماذا أتذكر "أم عطية" الآن .. لكنى وأنا أسترجع بعض الذكريات عرفت أننا كنا تلك العفاريت التى أحبتها  ..

سمعت بعد شهور قليلة من قطع شجرة التوت بموت "أم عطية" وحيدة وقد اكتشف الناس موتها بعد أيام من الوفاة.


مصطفى إسماعيل

الخميس، 9 فبراير 2012

تأملات الفراق

عندما أتأمل ما يحدثه غيابك فى نفسى من تداع لمعانى الشوق والحرمان واليأس والإحباط أتورط فى الدخول إلى عالم ما كنت أعرف عنه شيئا قبل غياب عينيك .. أشباح الأفكار تنشط فى ظلام حالك يلف الكون بصمت رهيب .. عقلى يغيب .. روحى تغيب .. وقلبى بين الشجون أسير حائر فى زمن عجيب .. منفي عن الشمس أعمى أتلمس دربا وعرا سرمديا تتحسس يداى نقوش اليأس فى جدرانه وتتعثر قدماى فى حفره ... فأسقط دون أن تقوى قدماى على النهوض مرة أخرى .. ثم تأخذنى سنة من نعاس  .. فتأتينى فى حلمى كعادتك ملاكا يبدد كل الظلام ... فأفيق بعد وقت قصير  .. أحاول دس رأسى فى الحلم ثانية لكنى أفشل أن أنام .. هكذا غيابك يهزمنى  ..  يقهرنى  ... ويبدد فلول النوم فى عينى ..يا ويلى ..  حتى جنة الحلم يسلبها جحيم اليقظة.


"مصطفى إسماعيل"